العملات الرقمية للبنوك المركزية في العالم النامي: فرصة للشمول أم تبعية جديدة؟

العملات الرقمية للبنوك المركزية في العالم النامي: فرصة للشمول أم تبعية جديدة؟

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

العملات الرقمية للبنوك المركزية في العالم النامي: فرصة للشمول أم تبعية جديدة؟

مقدمة: طفرة رقمية على أرضية هشة

في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة التحول الرقمي globally، تبرز العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) كواحد من أكثر الابتكارات المالية جرأة. بينما تدرس الدول المتقدمة هذه العملات بهدف تحديث أنظمتها المالية، فإن الأمر في العالم النامي يحمل بعدًا مختلفًا جذريًا. هنا، لا يتعلق الأمر برفاهية التكنولوجيا، بل بمواجهة تحديات وجودية: الشمول المالي، كفاءة التحويلات، ومحاربة الفساد. لكن هذا الطموح يقابله سؤال مصيري: هل ستكون هذه العملات جسرًا للعبور إلى مستقبل مالي عادل، أم ستتحول إلى قناة جديدة للتبعية الاقتصادية والتكنولوجية للقوى العظمى؟

الجزء الأول: الوعد الكبير – CBDCs كأداة للتمكين والشمول المالي

بالنسبة للكثيرين في الاقتصادات الناشئة، يبدو الوعد الذي تعلنه CBDCs وكأنه حلم يتحقق. يمكن تلخيص الفرص المتاحة في عدة نقاط محورية:

تعميم الخدمات المالية على نطاق غير مسبوق: يعيش حوالي 1.4 مليار شخص حول العالم خارج النظام المالي الرسمي. تتيح العملات الرقمية للبنوك المركزية، من خلال الهواتف المحمولة المنتشرة حتى في المناطق النائية، فتح حسابات رقمية آمنة لدى البنك المركزي نفسه أو عبر مؤسسات مالية وسيطة. هذا يعني إمكانية وصول المزارع في ريف كينيا، أو البائع المتجول في بنغلاديش، إلى خدمات الادخار والائتمان والتحويلات دون الحاجة لوجود فرع بنكي.

ثورة في تحويلات المغتربين: تمثل تحويلات العاملين في الخارج شريان حياة للعديد من اقتصادات العالم النامي.然而، تلتهم رسوم التحويلات التقليدية جزءًا كبيرًا من هذه الأموال. يمكن لـ CBDCs خفض هذه التكاليف إلى حد كبير، وجعل التحويلات فورية وآمنة، مما يضخ مزيدًا من الدولارات مباشرة في جيوب الأسر المستفيدة ويعزز الاستقرار الاقتصادي.

محاربة الفساد وتبديد الدعم: تقدم CBDCs للدول أداة قوية لتحقيق الشفافية المالية. يمكن برمجة عملات الدعم (كدعم الخبز أو الوقود) لتنفق فقط على السلع المستهدفة في أماكن محددة، مما يقطع الطريق على التسريب والفساد. كما تتيح للسلطات تتبع التدفقات المالية المشبوهة بشكل أكثر فعالية.

تعزيز السياسات النقدية: تمنح CBDCs البنوك المركزية رؤية فورية ودقيقة للاقتصاد، مما يمكنها من تصميم وتنفيذ السياسات النقدية (مثل خفض أو رفع أسعار الفائدة) بفعالية أكبر للاستجابة للتقلبات الاقتصادية.

الجزء الثاني: الوجه الآخر للعملة – مخاطر التبعية والفجوة الرقمية

وراء هذا الوعد اللامع، تكمن مجموعة من المخاطر العميقة التي قد تعيد إنتاج أشكال قديمة وجديدة من التبعية:

التبعية التكنولوجية: معظم التقنيات الأساسية لبناء CBDCs (سلاسل الكتل، أنظمة التشفير) تطورها وتسيطر عليها شركات ودول في العالم المتقدم. اعتماد العالم النامي على هذه البنى التحتية الأجنبية يخلق تبعية تكنولوجية خطيرة. من يتحكم في الكود؟ من يضمن أمن البيانات؟ هذا يجعل الاقتصادات الناشئة عرضة للابتزاز الجيوسياسي أو انقطاع الخدمة في حال نشوب نزاعات.

استعمار البيانات المالية الجديد: إذا لم تطور الدول النامية أنظمتها السيادية لتخزين ومعالجة بيانات معاملات مواطنيها، فإن هذه الثروة البياناتية الهائلة – التي تكشف عن أنماط الاستهلاك والتحويلات والادخار – قد تذهب إلى خوادم شركات أو حكومات أجنبية. هذا الشكل من "استعمار البيانات" يمكن أن يستخدم للتأثير على الأسواق أو حتى التلاعب بالسياسات الداخلية.

خنق الابتكار المالي المحلي: قد يؤدي إطلاق CBDCs تحت سيطرة البنك المركزي إلى إقصاء القطاع المالي التقليدي والشركات الناشئة المحلية في مجال التكنولوجيا المالية (Fintech)، والتي كانت تقود ثورة الشمول المالي في أماكن مثل إفريقيا. بدلاً من تمكين النظام المالي المحلي، قد تؤدي إلى مركزة غير مسبوقة للسلطة في يد الدولة، مما يحد من المنافسة والابتكار.

مخاطر الإقصاء والمراقبة: على عكس النقود التقليدية، فإن العملات الرقمية قابلة للبرمجة والتتبع بشكل كامل. في ظل الأنظمة الضعيفة أو السلطوية، يمكن أن تتحول CBDCs إلى أداة مراقبة مالية مطلقة. يمكن للحكومات، نظريًا، تجميد أموال المعارضين، أو تحديد تاريخ انتهاء صلاحية للأموال (مثل التحفيز الاقتصادي المشروط بالإنفاق في وقت محدد)، أو فرض قيود على أنواع السلع التي يمكن شراؤها. هذا يهدد الحريات الفردية ويخلق نظامًا ماليًا اجتماعيًا تسيطر عليه الدولة.

تفاقم الفجوة الرقمية: قد يؤدي الإطلاق المتسرع لـ CBDCs إلى إقصاء كبار السن، والأميين رقميًا، ومن يعيشون في مناطق ذات بنية تحتية رقمية ضعيفة. إذا أصبحت الخدمات الحكومية والمدفوعات تعمل بشكل أساسي عبر العملة الرقمية، فإن من لا يستطيعون الوصول إليها سيجدون أنفسهم خارج المجتمع بشكل كامل.

الجزء الثالث: دروس من أرض الواقع – بين النجاح والتحدي

نيجيريا (eNaira): رغم كونها رائدة في إفريقيا، واجهت العملة النيجيرية تحديات كبيرة تتعلق بضعف تبني الجمهور، ومشاكل تقنية، ومنافسة شرسة من القطاع الخاص (مثل خدمات الدفع عبر الهاتف المحمول). هذا يظهر أن وجود CBDC لا يضمن النجاح تلقائيًا دون بناء ثقة الجمهور وتقديم قيمة مضافة حقيقية.

الصين (اليوان الرقمي): بينما ليست من "النامي" بالمعنى التقليدي، فإن تجربة الصين تقدم تحذيرًا واضحًا حول كيفية استخدام CBDC كأداة لتعزيز الرقابة والتحكم الداخلي، وكذلك كسلاح جيوسياسي لتحدي هيمنة الدولار.

تجارب منطقة الكاريبي (مثل جامايكا): تظهر بعض الدول الصغيرة نجاحًا أكبر في التبني، حيث ركزت على تبسيط الدفع الحكومي وتعزيز الشمول المالي في مجتمعات أصغر وأكثر تجانسًا.

الخاتمة: عند مفترق الطرق – السيادة أولاً

تقف الاقتصادات النامية عند مفترق طرق حاسم. العملات الرقمية للبنوك المركزية ليست نعمة مطلقة ولا نقمة محتومة. إنها أداة ذات حدين، نتائجها تتوقف على "كيفية" تطبيقها وليس "إذا" تم تطبيقها.

لكي لا تتحول هذه الفرصة إلى تبعية جديدة، يجب على هذه الدول أن:

تستثمر في البنية التحتية الرقمية والسيادة التكنولوجية: عبر تطوير حلول محلية أو إقليمية، والتفاوض بشروط صارمة مع الموردين الأجانب.

ترسيخ أطر رقابية قوية: لحماية بيانات المواطنين وخصوصيتهم، ومنع إساءة استخدام السلطة.

تعزيز الشمول الرقمي: لضمان ألا يترك أحد خلف الركب.

اعتماد نهج تعاوني إقليمي: قد يكون تطوير عملة رقمية إقليمية، كما تُدرس في عدة تكتلات، وسيلة لتعزيز القوة التفاوضية وتقليل التكاليف.

السؤال الحقيقي ليس عما إذا كانت CBDCs ستشمل المهمشين مالياً، بل عما إذا كانت الدول النامية ستتمكن من قيادة رحلتها الرقمية دون التنازل عن سيادتها الاقتصادية والتقنية. الجواب سيكون محدداً، ليس في مختبرات التكنولوجيا، بل في قاعات السياسة وقوة المؤسسات وإرادة الشعوب.

image about العملات الرقمية للبنوك المركزية في العالم النامي: فرصة للشمول أم تبعية جديدة؟
التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

50

متابعهم

8

متابعهم

9

مقالات مشابة
-