خلف قناع الترفيه: كيف يهدد "تيك توك" منظومة القيم والمبادئ في مجتمعاتنا؟

في السنوات القليلة الماضية، اجتاح تطبيق "تيك توك" العالم كإعصار رقمي، مغيرًا ليس فقط طريقة استهلاكنا للمحتوى، بل وكيفية تفاعلنا مع واقعنا اليومي. لم يعد الأمر مجرد مقاطع فيديو قصيرة للرقص أو الطهي، بل تحول إلى منصة تشكل وعي جيل كامل. ومع هذا الانتشار الواسع، برز تساؤل مقلق يتردد في أذهان الكثيرين: هل أصبح التيك توك معول هدم للمبادئ والقيم الأخلاقية؟ في هذا المقال، نغوص في عمق الظاهرة لنحلل كيف يمكن لهذا التطبيق أن يغير مفاهيمنا الراسخة ببطء ولكن بثبات.
1. هوس "الترند" وانهيار حواجز الاحترام

المشكلة الأولى والأكثر وضوحاً هي السعي المحموم خلف ما يسمى بـ "الترند". خوارزميات تيك توك مصممة لمكافأة المحتوى المثير للجدل، الغريب، أو حتى السخيف. هذا النظام خلق دافعاً لدى الكثيرين، خاصة المراهقين، للتنازل عن وقارهم واحترامهم لذواتهم مقابل بضع آلاف من المشاهدات.
نرى اليوم تحديات تشجع على التصرفات المتهورة، أو مقاطع تعتمد على الإيحاءات غير اللائقة، فقط لأنها "تجلب التفاعل". هنا، تصبح القيمة الحقيقية للإنسان مرتبطة بالرقم الذي يظهر أسفل الفيديو، وليس بأخلاقه أو علمه، مما يرسخ مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" في أبشع صوره.
2. انتهاك الخصوصية واستباحة حرمة البيوت

لعل أخطر ما جلبه تيك توك هو إزالة الحدود الفاصلة بين الحياة الخاصة والعامة. تحولت البيوت التي كانت أسراراً مقدسة إلى استوديوهات مفتوحة. أصبحنا نرى أزواجاً يشاركون تفاصيل خلافاتهم، أو لحظاتهم الخاصة جداً، وأمهات يصورن أطفالهن في مواقف محرجة لجمع الإعجابات.
هذا "التعري الاجتماعي" يقتل مفهوم "الستر" والخصوصية، ويعلم الأجيال الجديدة أن كل شيء قابل للبيع والمشاركة، مما يفكك الروابط الأسرية ويحول أفراد الأسرة إلى مجرد "محتوى" لزيادة الأرباح.
3. تطبيع الابتذال والمادية المفرطة

التيك توك يعتمد بشكل كبير على الإبهار البصري السريع. هذا خلق بيئة خصبة لانتشار المادية؛ حيث يتم استعراض الملابس الفاخرة، السيارات، وأسلوب الحياة الباذخ بشكل يولد الحسد والشعور بالنقص لدى المشاهد العادي.
علاوة على ذلك، فإن كثرة التعرض للمحتوى المبتذل أو الألفاظ النابية يجعلها مع الوقت أمراً مألوفاً وعادياً (Normalization). ما كان يرفضه المجتمع بالأمس، أصبح يتقبله اليوم بابتسامة بلهاء لأنه شاهده مائة مرة على الشاشة، وهذا هو الخطر الحقيقي: تخدير الضمير الجمعي للمجتمع.
4. القدوة المزيفة

في الماضي، كانت القدوة هي الطبيب، المعلم، أو الشخص الناجح بعمله وجهده. اليوم، يقدم تيك توك نماذج "ناجحة" بمعايير مشوهة. شاب لا يملك أي موهبة سوى الرقص أمام الكاميرا، أو فتاة تفتعل المشاكل، يصبحون نجوماً يمتلكون المال والشهرة.
هذا يضرب قيمة "العمل الجاد" في مقتل. لماذا يجتهد الشاب في دراسته إذا كان بإمكانه تحقيق الثراء عن طريق فيديو تافه مدته 15 ثانية؟ هذا التحول يهدد بخلق جيل فارغ، يبحث عن الطرق المختصرة ولا يؤمن بقيمة السعي الحقيقي.
هل التطبيق هو الملام أم نحن؟

في النهاية، لا يمكننا أن نلقي باللوم كاملاً على التكنولوجيا، فالتيك توك مجرد أداة، والسكين يمكن أن تقطع التفاح أو تجرح اليد. المشكلة تكمن في غياب الرقابة الذاتية والأسرية، وفي الفراغ الذي يعيشه الكثيرون.
الحفاظ على المبادئ في عصر "الترند" معركة صعبة، لكنها ضرورية. علينا أن نربي أنفسنا وأبناءنا على أن قيمتنا تنبع من داخلنا، لا من عدد المتابعين، وأن المبادئ هي العملة الوحيدة التي لا يجب أن تخضع لقوانين العرض والطلب في سوق السوشيال ميديا.